إعداد الأطباء في عصر الإبداع
د. وليد أحمد المصري
تعتبر مهنة الطب من أرقى المهن التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل، فلا حياة سليمة دونها، إنها مهنة إنسانية راقية تحتاج مجموعة من السمات يجب ان تتوفر لدى الطبيب حتى يستطيع القيام بمهنته على أكمل وجه، ومن هنا تبرز أهمية إعداد الأطباء في كليات الطب، إعداداً أكاديميا عن طريق الحصول على تدريب عال يؤهلهم لممارسة هذه المهنة اعداد يشمل أيضاً الجوانب الإنسانية والأخلاقية فالطبيب ينبغي أن يتمتع بأخلاق عالية تجعله شخصاً مؤتمناً على أسرار مرضاه متعاطفاً معهم مقللاً من مخاوفهم وباعثاً الأمل فيهم.
لذلك بدأت كليات الطب في الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذ استراتيجيات جديدة ومختلفة بعض الشيء في إعداد الطلاب في تلك الكليات مركزين على الجوانب الإنسانية والتعاطف مع المرضى.
إن المنهج المندفع والمتعجل في معالجة المرضى والذي يعتمد على معرفة حقائق مجردة ربما يتغير في الوقت الحاضر والفضل في ذلك يعود إلى جهود الدكتورة ريتا شارون الأستاذة بكلية الطب بجامعة كولومبيا.
لقد حاولت وضع القصة في مركز عمليتي التشخيص والعلاج، حيث توصلت إلى نتيجة مفادها أن ما تفعله كطبيبة يقوم في معظمه على القصص، فالمرضى يوضحون ما يعانون منه في شكل قصة والأطباء يروون قصصاً خاصة بهم.
لقد دعت هذه الطبيبة إلى إصلاح العملية التعليمية في كليات الطب وأطلقت حركة الطب القصصي في مقالة لها عام 2001م في جريدة رابطة الطب الأمريكي Journal of the American Medical ASSOCIATION والتي دعت إلى منهج يقوم على تكامل وظائف المخ.
ولا يستطيع الطبيب المٌعد أكاديمياً فقط مساعدة مرضاه على مواجهة مشكلاتهم الصحية دون الإصغاء لحكاياتهم واستيعاب وتقدير معانيها والتأثر بها من أجل العمل لصالح المريض.
ويأخذ اليوم طلاب السنة الثانية في كلية الطب بجامعة كولومبيا محاضرات في الطب القصصي Narrative Medicine إلى جانب المناهج التقليدية حيث يتعلم الطلاب في تلك المحاضرات الإصغاء بتعاطف أكبر إلى القصص التي يرويها المرضى وقراءة تلك القصص بمزيد من الدقة والتأمل بدلاً من طرح سيل عارم من الأسئلة التشخيصية للمرضى بطريقة آلية، كما يجب أن يتعلم هؤلاء الطلاب جعل استفساراتهم أكثر شمولاً فمثلاً عبارة ((أخبرني بموضع الألم)) تتحول إلى عبارة ((أخبرني عن حياتك).
إن دراسة طلاب الطب للقصة يساعدهم على الارتباط أكثر بمرضاهم وتقييم حالتهم الصحية في سياق قصة حياتهم الكاملة.
يعد الطب القصصي جزءاً من اتجاه أوسع لدمج منهج يعتمد على قدرات الجانب الأيمن من المخ في الممارسات الطبية والتي بقيت لفترات طويلة معقلاً لقدرات الجانب الأيسر قبل خمس عشرة سنة كانت واحدة من ثلاث كليات طب في أمريكا تقريباً تدرس مناهج في العلوم الإنسانية، واليوم يفعل ذلك ثلاثة من كل أربع كليات ويقوم مستشفى بيليفو Bellevue العام في نيويورك سيتي بإصدار دورية خاصة بها هي iteracy ReviewBellevue L وبدأ مدرسو كلية الطب في الجامعات الأمريكية يطلبون من طلابهم كتابة التاريخ المرضي لأحد مرضاهم في صورة قصة ،أي سرد قصة المريض من وجهة نظر المريض ذاته.
إن القصص وحدها بطبيعة الحال لن تشفي المرضى، لكن عندما تجتمع مع التكنولوجيا الحديثة تصبح لها قوة علاجية لا يمكن لأحد الشك بها، ربما يكون هذا مستقبل الطب حيث يتم تخريج أطباء يستطيعون تحليل الاختبارات وتقدير القصص، أطباء بعقل جديد مبدع ومتميز.
إن التعاطف هو القدرة على تخيل نفسك في موقف شخص آخر وعلى الإحساس بمشاعره، إنه القدرة على وضع نفسك مكان الآخر والرؤية بعينيه والإحساس بقلبه
إن التعاطف يختلف عن العطف الذي هو الشعور بالأسف تجاه شخص آخر، أما التعاطف فهو الشعور مع الشخص الآخر والشعور بما يظهر عليه الحال لو أصبحت مكانه.
إن التعاطف عمل تخيلي يتصف بالشجاعة مذهل، قمة الواقع الافتراضي حيث تقفز إلى ذهن شخص آخر لترى العالم من منظوره.
ويقول أحد الأطباء الأمريكان (هالبرن): الأطباء يعبرون عن التعاطف ليس فقط من خلال إعطاء تعليقات دقيقة عن مشاعر المرضى، ولكن من خلال توقيت إعطائها ونبرة الصوت والوقفات والتناغم الكامل مع النمط العاطفي للمرضى.
لقد بدأت الهيئة التي تعتمد كليات الطب تشترط أن يكون التواصل بفعالية وتعاطف مع المرضى عاملاً يدخل في التقييم العام لطالب الطب، وبدأت الممثلة المسرحية ( ميجان كول ) تسافر إلى كليات الطب لتدرس فن التعاطف وتعلم الأطباء المتدربين بهدف فهم أفضل لآلام المرضى ،كما يتلقى طلاب الطب في جامعة (فاندربلت) دورات في دراسة التعبير عن أخطائهم والاعتذار عنها .
كما أن كلية الطب في جامعة جيفرسون بفيلاديلفيا وضعت مقياساً للتعاطف اسمه (مقياس جيفرسون لتعاطف الطبيب).
إن الإدراك المتزايد لدور التعاطف في العلاج هو أحد الأسباب في أن مهنة التمريض ستصبح واحدة من المهن الأساسية في القوى العاملة في عصر الإبداع.
تشهد هذ الأيام مناهج كليات الطب في أمريكا أكبر تغير في حياتها فالطلاب في كلية الطب بجامعة كولومبيا يتم تدريبهم على الطب القصصي حيث أظهرت الدراسات أنه رغم قوة التشخيص بالكمبيوتر إلا أن جزءاً مهماً من عملية التشخيص يكون متضمناً في قصة المريض أو سرد حكايته مع المرض، وفي كلية الطب بجامعة (ييل) يقوم الطلاب بشحذ قدرتهم على الملاحظة في مركز ييل للفن البريطاني، لأن الأطباء المتدربين الذين يدرسون اللوحات الفنية يتفوقون في ملاحظة التفاصيل الدقيقة لحالة المريض.
كما قامت أكثر من خمسين كلية طب في الولايات المتحدة بدمج مقررات دينية في مناهجها الدراسية، وقد أنشأت كلية الطب بجامعة كاليفورنيا برنامجا ليلياً بالمستشفى يسمح لطلاب السنة الثانية بدخول المستشفى ليلاً بأمراض مقترحة أو متخيلة وتقول الكلية إن الهدف من التمثيل هو تمكين التعاطف مع مرضاهم.
كما أظهرت الدراسات أن تحسين تصميم المنشأت والمرافق الطبية يساعد المرضى على التحسن بسرعة، ففي دراسة بمستشفى ( مونتيفيوري) في بتسبرج احتاج المرضى الذين أجريت لهم عمليات جراحية وتم وضعهم في غرف تتوفر فيها الإضاءة الطبيعية إلى قدر أقل من المسكنات وكانت تكلفة أدويتهم أقل بنسبة 20% من نزلاء الغرف التقليدية ،كما قارنت دراسة أخرى بين عينتين من المرضى كانوا يعانون من اعتلالات مماثلة حيث عولجت إحداها في جناح تقليدي كئيب في المستشفى بينما عوُلجت الثانية في جناح حديث تدخله الشمس ، وقد احتاج مرضى الجناح الأفضل إلى مسكنات أقل مقارنة باللذين يسكنون في أجنحة تقليدية .
كما قرر الأطباء خروجهم من المستشفيات قبل يومين تقريباً بالمتوسط، وتعيد الكثير من المنشآت الطبية تصميم مرافقها بهدف توفير أكبر قدر من الإنارة وغرف انتظار تتيح الخصوصية والراحة ومجموعة من أشكال التصميم مثل الحدائق والمتاهات التي تساعد على التأمل والتي يعتقد الأطباء أنها تساعد على الشفاء وتعجل به.