الرأي

تعطيل الحواس الإرادي

د. إيناس غريب
الأستاذ المساعد بقسم علم النفس بكلية التربية


هل تسعى للهدوء والاستجمام لتصل للراحة النفسية؟ بعيدا عن المشتتات والمثيرات والأحداث المزعجة، وتجلس بمفردك في غرفة مظلمة هادئة في حالة استرخاء تام.
جميعنا يتمنى هذا، لكن ماذا لو لم تعد ترى شيئا أو تسمع صوتا أو لم تجد شيئا تتلمسه وصرت بمعزل عن العالم.. لا لأنك فقدت عينيك أو أصبت بالصمم أو فقدت حاسة اللمس أو الشم، بل على العكس فحواسك تعمل في كامل قوتها إلا أنك لست بحاجة لاستخدامها لعدم توفر مثيرات تتطلب منك استقبالها.
هذه التجربة قام بها “دونالد هب” عالم النفس المتخصص في علم النفس العصبي، على عدد من المتطوعين الأصحاء نفسيا وعقليا، بتعريضهم لحالة من الحرمان الحسي التام، وذلك بوضعهم في غرفة مظلمة بنظام عزل كامل، وكان المتطوع يرتدي أغطية للوجه وقفازات بالأطراف تحيل دون استخدامه لأي من حواسه.
وبعد مضي فترة زمنية تختلف من فرد لآخر كان أغلب المتطوعين يصنعون مثيراتهم بأنفسهم، فيغنون أو يتحدثون بصوت مرتفع إلى أن تطورت حالة البعض منهم إلى التفاعل مع الهلاوس والتي تختلف من حيث الشدة والنوع، تلك التي تتطابق مع الهلاوس الناتجة عن تناول قدر كبير من المخدرات.
فهكذا هي حواسنا ببساطة تتصرف دوما بالعكس، فكلما قلت المثيرات من حولنا كلما أصبحت هي أكثر نشاطا، فقد كشفت الدراسات الحديثة أن حاسة البصر مثلا قد تتعامل عند حرمانها من المثيرات “البصرية” مع مثيرات أخرى سمعية أو لمسية أو شمّية بل وتصنع لنفسها من تلك المثيرات غير البصرية تخيلات بصرية تناسبها.
ولهذا فالحرمان الحسي يشبه الملل الذي قد يعترينا بالحياة، بل إنه القاتل الحقيقي لقدراتنا العقلية ولحواسنا كما هو الحال عندما تضعك الظروف في عمل رتيب ممل ليس به من المثيرات المقدار الكافي لتنبيهك مما قد يثبط حواسك، كالطيارين وسائقي الشاحنات ومراقبي الرادار بل والمسجونين انفراديا جميعهم حرموا إراديا أو لا إراديا من المنبهات الحسية.
فالخطورة إذن ليست في فقد حواسنا التي منّ الله بها علينا بل الأدهى من الفقد هو الحرمان الحسي من خلال تعطيل استخدامها والذي قد يؤدي بنا إلى الجنون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى