بيئة

بعد امتلاء أكبر وأطول أودية الجزيرة العربية بالماء وجريانه للمرة الأولى منذ 11 عاما.. وادي الرمة.. تأملات رقمية جغرافية

قبل 10 آلاف سنة كان نهراً عظيماً منابعه في شرق المدينة ويصب في شط العرب قريباً من جبل سنام
بطول حوالي 600 كلم وعرض يتراوح بين 300 متر و5 كيلومترات
يقع معظمه في القصيم وأطرافه جنوب حائل وشرق المدينة المنورة، وشمال غرب الرياض

تشهد منطقة القصيم هذه الأيام حدثا فريدا طال غيابه بسبب الجفاف والقحط في المواسم السابقة، وهو جريان مياه وادي الرمة الذي ينطلق من الحرة بالمدينة ويقطع القصيم ثم يتوقف في نفود الثويرات قرب الزلفي، وقد جرى الوادي هذا العام بعد الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة الأيام الماضية، حيث وصل الوادي بعد أن سال بفعل روافده من الشعاب والأودية الصغار فقطع مسافة طويلة حتى وصل بين بريدة وعنيزة، ليخرج الأهالي للتنزه على ضفافه والتقاط الصور التذكارية بعد غياب دام أكثر من 11 عاما.
وكانت آخر مرة فاض فيها الوادي عام ١٤٢٩هـ وقبلها عام ١٤٠٢هـ، وكان جريانه أقوى، ومتوقع أن يستمر في طريقه الأيام القادمة، ولهذا فسنحاول في السطور التالية التعريف ببعض المعلومات المتعلقة بهذا الوادي الذي يعتبر أكبر وأطول أودية الجزيرة العربية.

ما هو وادي الرمة؟ وأين يقع؟
يعد وادي الرمة من أهم الظواهر الجيومورفولوجية في هضبة نجد، ويقوم بتصريف سيول هضبة نجد المتبلورة (الواقعة فوق الدرع العربي)، عبر شبكة كثيفة ومعقدة من الروافد والشعاب، وحوض وادي الرمة يقع معظمه في منطقة القصيم، بينما تقع أطرافه جنوب منطقة حائل، وشرق منطقة المدينة المنورة، وشمال غرب منطقة الرياض.
ويمتد حوض وادي الرمة غرباً من حرات بركانية سوداء ترتفع عن سطح البحر بأكثر من 1300م كحرة هُتَيْم وحرة خيبر شرق منطقة المدينة المنورة، وينتهي الرمة شرقاً على أعتاب نفود الثويرات بالقرب من قرية البَنْدَرِيَّة جنوب الأسياح حيث محيره ومصبه وقيعانه، وبذلك يبلغ طول الوادي 600 كلم تقريباً، وكان قبل حوالي 10000 سنة في العصور المطيرة نهراً عظيماً يجري من شرق المدينة ويصب في شط العرب قريباً من جبل سنام عبر وادي الأجردي والباطن وبطول يصل إلى 1200 كلم تقريباً، وبعد عصور الجفاف الطويلة والقاسية انفصل وادي الأجردي والباطن عن وادي الرمة الأصل، وأصبحا واديين مستقلين بسبب نشاط زحف وحركة رمال الثويرات والدهناء، والتي أدت إلى قطع مجرى الوادي إلى ثلاثة أجزاء: الرمة وهو الأطول والأكبر 600 كلم، الأجردي وهو الأصغر 45 كلم ويقع في هضبة التَيْسِيَّة، وأخيراً الباطن 450 كلم. ويشار إلى أن وادي الرمة قديما وقبل أن تقطع الرمال طريقه قد بنى سهلاً فيضياً في الدبدبة شمال شرق السعودية.
ويبدأ حوض الرمة غرباً من حرة خيبر حيث تجتمع عشرات الأودية الصغيرة والمراوح الفيضية لتشكل أعالي مجرى الوادي، ويكون اتجاه الرمة إلى الجنوب الشرقي حتى يتصل به رافد الجَرِير من الجنوب فيتغير اتجاهه مرة ثانية إلى الشمال الشرقي، متبعاً المنخفضات والسهول، وبصفة عامة يتبع جريانه ميلان أرض نجد من الغرب إلى الشرق بصفة عامة.
ويميل منسوب الوادي من الغرب إلى الشرق ميلاناً ضعيفاً وبمعدل 1.3م في كل 1كلم، إذ يبلغ ارتفاعه عند أعالي الرمة قرب الحرات الغربية في منطقة المدينة حوالي 1380م فوق سطح البحر، وعند عقلة الصقور 785م، وعند الرس 655م، وعند البدائع 647م، بينما عند عنيزة 630م، وعند سد الوادي 613م، أما عند بريدة 602م، وأخيراً مصبه عند قرية البندرية التي ترتفع 575م فوق سطح البحر. هذا الميلان التدريجي والضعيف لمجرى وادي الرمة منح الوادي فرصة ليرسب حمولته من الطمي العظيم فوق قطاع حوض الوادي الشرقي، مما أسهم في خصوبة الأرض وقيام الزراعة عليها من عصور قديمة جدا، أيضاً الانحدار الضعيف للوادي خفف من سرعة جريانه، مما أتاح للمياه والسيول أن تتسرب للمياه الجوفية الضحلة في نطاق الدرع العربي (غرب الوادي)، وللمياه الجوفية الضحلة والعميقة في نطاق الرف العربي الرسوبي (شرق الوادي).
وعرض وادي الرمة متباين، وهو في المتوسط يبلغ 2 كلم في محيط عقلة الصقور، ثم يتسع ليبلغ حوالي 3 كلم بين الجبلين (أبانات الأحمر وأبانات الأسمر)، ثم 3.5 كلم غرب الرس، وما بين الرس والبدائع 5 كلم، ثم يدخل مرحلة عنق الزجاجة بعرض 300م فقط عند منطقة الخنقة، حيث زحفت رمال الشقيقة على مجرى الوادي، ويقل العرض كلما اقتربنا من شمال عنيزة حيث المزارع على ضفاف المجرى، ومن ثم يتسع مرة أخرى شمال شرق عنيزة بعرض متوسطي يبلغ 500 م، ثم يتسع عرضه أكثر إلى 1.5 كلم جنوب شرق بريدة حتى يصل إلى منخفضات وقيعان يحير ويتجمع فيها، وهي روضة الزغيبية شرق عنيزة، وقاع الباطن شرق بريدة، وسبخة غويمض جنوب شرق بريدة.

فروع الوادي وروافده
ولوادي الرمة مئات الفروع الثانوية وعشرات الفروع الرئيسية والتي تبقى جافة طول العام، وأحياناً لأكثر من عام حتى يأذن الله تعالى بنزول أمطار غزيرة ومتواصلة لتجري لعدة أيام، وروافد الرمة تفوق الثلاثمائة رافد وشعيب، ومن أهم روافده الشمالية: وادي الشِّعْبَة يصرف سيول جنوب حائل، ووادي القَهَد الذي يصرف سيول جنوب غرب حائل، وادي المَحَلاَني وينحدر من الشمال إلى الجنوب عند عقلة الصقور، وادي الجُرَيَّر (تصغير الجَرِير) يجري باتجاه الجنوب الشرقي ويلتقي بوادي ثادج، فيتغير اسمه إلى وادي ثادج قبل أن يصب بوادي الرمة، وادي أبو نخلة شمال الرس.
أما روافد الرمة الجنوبية فهي: وادي الرَّقَب يبدأ من شرق حرة هُتَيْم، وادي الجفن، وادي الجَرِير والذي يجري من الجنوب إلى الشمال، وهو من أهم روافد الرمة الجنوبية ويصب في الجَرِير، روافد مهمة مثل وادي ساحوق، وادي طلال، وادي البحرة و وادي المياه، أيضاً من روافد الرمة الجنوبية وادي الداث الذي يلتقي بالرمة عند قرية القيصومة. وادي الخشيبي ووادي النساء، ويجري من الجنوب إلى الشمال ويلتقي بالرمة عند محافظة البدائع.
والرمة نادراً ما يجري بكامل طاقته من غربه إلى شرقه، والغالب أن يجري بعضه أو بعض روافده ثم لا تلبث أن تنتهي وتتوقف في منتصف المسافة، والمؤرخون رصدوا جريان وفيضان الرمة عبر التاريخ القديم منها عام 1234هـ، وقد جرى الوادي لمدة 40 يوماً، وعام 1253هـ، وعام 1376 جرى الوادي لمدة 22 يوماً، وعام 1402هـ جرى الوادي 17 يوما، وعام 1429هـ وفي عام 1440هـ مازال الوادي يجري حتى كتابة هذا التقرير.

تأثيرات تغير مناخ الكرة الأرضية على وادي الرمة والاحتياطات الواجب اتخاذها
لذا فقد يقود تغير المناخ العالمي إلى هطول أمطار غزيرة ومتواصلة ومتكررة في وقت قصير وخلال موسم واحد في أرض العرب، ومن هنا فإن وادي الرمة قد يفاجئ الجميع على حين غرة ويجري خلال الموسم الواحد أكثر من مرة بكامل طاقته أو يزيد، مما يجعل الجريان السطحي للوادي يفيض عن مجراه ويملأ كل قيعانه وفياضه الشرقية، خاصة في ظل وجود السد الطبيعي المتمثل في نفود الثويرات والذي قد يجعل المياه ترتد مرة أخرى إلى الغرب حيث حواضر القصيم الكبرى، لا قدر الله. ويشار إلى أن السد الطبيعي المتمثل في رمال الثويرات (عرضه 73كلم) هو هبة من الله تعالى لقاطني المنطقة ليحجز كميات هائلة من المياه في شرق القصيم، ولتتاح فترة أطول ومساحة أكبر للمياه لتتسرب لتكوينات المياه الجوفية لتغذيتها، ولينعم سكانها بهذا المخزون المائي الإستراتيجي حتى وقتنا الحاضر، هذا من جهة ومن جهة أخرى السد الطبيعي يعتبر خطراً جداَ في حالة تكرار جريان الرمة أكثر من مرة في الموسم الواحد بكامل طاقته؛ ولهذا فعلى صانعي القرار والجهات ذات العلاقة دراسة مناخية هيدرولوجية جيومورفلوجية شاملة عاجلة وعالية الدقة لحوض وادي الرمة، لتقييم درجة الخطورة في المستقبل في ظل التغير المناخي العالمي .. والله يحفظ البلاد والعباد من كل سوء ومكروه.

المصدر: أ.د. عبدالله المسند أستاذ المناخ بقسم الجغرافيا بجامعة القصيم
مؤسس ورئيس لجنة تسمية الحالات المناخية المميزة في السعودية (تسميات).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى